وجه إبطال الشبهة:
· إن
حديث غوص قوائم فرس سراقة في الرمال حديث صحيح، بل في أعلى درجات الصحة؛
إذ اتفق على روايته الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحيهما، وما ورد فيه
ليس من المبالغات، بل معجزة أيد بها الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه
وسلم، وليست من عوامل الطبيعة - كما زعموا، وإلا فلماذا لم تسخ أقدام الفرس
بعد أن أخذ سراقة الأمان، والأرض هي الأرض، والفرس هي الفرس؟!
التفصيل:
بداية، نشير إلى أن المعجزة أمر خارق
للعادة يظهره الله تعالى على أيدي الأنبياء والمرسلين تأييدا لهم، ودليلا
على نبوتهم، وهي ليست من عمل النبي وكسبه، وإنما هي خلق محض من الله تعالى
على خلاف سنته في الكائنات، ومن ثم فلا مجال لحكم العقل عليها؛ لأنها خارج
حدود العقل، كما أن العقل غير مطالب بتفسيرها.
ومن هذه المعجزات التي أيد الله بها نبيه -
صلى الله عليه وسلم - أثناء هجرته - غوص قوائم فرس سراقة بن مالك في
الرمال عند محاولته اللحاق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر؛
لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث سراقة بن مالك وغوص قوائم فرسه أثناء
الهجرة حديث صحيح، أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما، والبيهقي
والحاكم أيضا.
فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن
شهاب، أن سراقة بن مالك بن جعشم قال: «... فركبت فرسي - وعصيت الأزلام -
تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا
يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا
الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت
قائمة إذا لأثر يديها عثان[1]
ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم
بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من
الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك
قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبارا ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد
والمتاع، فلم يرزآني[2]،
ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر
بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم»[3].
هذا هو لفظ البخاري، وأما مسلم فقد روى في
صحيحه عن البراء بن عازب في الحديث الطويل - حديث الرحل - أن أبا بكر قال:
«فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جلد من
الأرض، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا، فقال: لا تحزن؛ إن
الله معنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى
بطنها، أرى فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما
أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجي، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم
ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفى لنا». ومن رواية عثمان بن عمر:
«فلما دنا دعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساخ فرسه في الأرض
إلى بطنه، ووثب عنه، وقال: يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن
يخلصني مما أنا فيه، ولك علي لأعمين على من ورائي...»[4].
فهذا الحديث متفق عليه؛ إذ رواه البخاري
ومسلم، وكل ما اتفق عليه الشيخان فهو في أعلى درجات الصحة، وإذا كان
الحديثان صحيحين فهذا ما يؤكد ثبوت تلك المعجزة، وينفي أن تكون بفعل
العوامل الطبيعية كما زعم الزاعمون، ومما يبين ذلك أنهم كانوا في "جلد من
الأرض" أي: في أرض صلبة. يقول الإمام النووي في شرحه لمعنى كلمة "جلد":
"أي: أرض صلبة، وروي: "جدد"، وهو المستوى، وكانت الأرض مستوية صلبة، فغاصت
قوائمها في تلك الأرض الجلد[5].
فإن كانت الأرض مستوية صلبة ليست رخوة، فأين العامل الطبيعي الذي كان سببا في غوص قوائم الفرس إذن؟!
ويؤيد ذلك أبو الفرج نور الدين الحلبي في
"السيرة الحلبية" فيما ينقله بلسان سراقة بن مالك قال: "وساخت - أي: غابت -
يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي: وكانت الأرض جلدة فخررت عنها،
ثم زجرتها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها
عثان - أي غبار - ساطع في السماء مثل الدخان مع كون الأرض جلدة"[6].
وقد وردت كلمة "جلدة" بمعنى صلبة في رواية
مسلم التي رواها عن أبي بكر - رضي الله عنه - وهو أعلم بطبيعة هذه الأرض؛
لأن أبا بكر كان يسير بقدمه عليها.
ومما يقطع بكونها معجزة من عند الله تعالى
تأييدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليست من فعل العوامل الطبيعية، أو بسبب
جهد الجواد - ما قاله سراقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما غاصت
قوائم فرسه: "إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن
أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجي"، وما رواه عثمان بن عمر من قول سراقة
للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن
يخلصني مما أنا فيه، ولك على لأعمين على من ورائي"، وهذا فيه كفاية على
علمه بأن ذلك بسبب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر عليه، لا
بفعل العوامل الطبيعية.
ونقول لمن ينفي هذه المعجزة، لماذا لم تسخ
أقدام الفرس بعد أن أخذ سراقة الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
هل تغيرت التربة من تحت قوائم فرسه، أو تغير الفرس نفسه؟! إن هذا وذاك لم
يحدث، بل استطاع أن يرجع سراقة بجواده مرة أخرى حتى وصل مكة، وهذا دليل آخر
على تحقيق هذه المعجزة.
وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له أن يلبس سواري كسرى، فلما أتى عمر بسواري كسرى، ومنطقته[7]،
وتاجه دعا سراقة بن مالك وألبسه إياها. وكان سراقة رجلا أزب - أي كثير
الشعر - كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله
الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة رجلا
أعرابيا من بني مدلج، ورفع عمر صوته.
وقد ذكر أنه كتب شعرا بعدما عاد من رحلته، وما حدث فيها من معجزات للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأنشد يقول:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم بأن جميع الناس طرا يسالمه[8]
وبهذا يتبين لنا أن الرواية التي قصت ما
حدث مع سراقة بن مالك رواية صحيحة لا تشوبها شائبة، وأنها معجزة من معجزات
النبي - صلى الله عليه وسلم - التي جاءت بها كتب السنة الصحيحة، وقد جاءت
في أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل، والتي اتفق المسلمون جميعا سلفا وخلفا
على صحتهما وحجية ما جاء فيهما.
فكيف يدعون أن الفرس كبا نتيجة إجهاده وتعبه، وأن هذه مبالغات لا داعي لذكرها؟!
الخلاصة:
· المعجزة
تختلف عن القانون العام السائر في الكون، فلا تقاس عليه أو تقارن به،
وقدرة الله التي لا حدود لها هي الكامنة وراء المعجزة، فالله تعالى هو خالق
الكون وناموسه، وقادر على تغيير تلك النواميس في أي لحظة؛ تصديقا لرسوله
وتأييدا له؛ لذلك فلا غرابة في أن تكون المعجزة خارقة للعادة بقدرة الله
تعالى؛ ومن ثم فلا تقاس هذه الأمور بالعقل ما دامت قد ثبتت بالنقل الصحيح.
· إن
حديث غوص قوائم فرس سراقة بن مالك أثناء ملاحقته للنبي - صلى الله عليه
وسلم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنهما - وهما في طريق الهجرة إلى المدينة
حديث صحيح، اتفق على صحته الشيخان؛ البخاري ومسلم، وما اتفق عليه الشيخان
يكون في أعلى درجات الصحة، ولا مجال للتشكيك فيه، لثبوته عن النبي صلى الله
عليه وسلم.
· إن
متون الأحاديث التي ذكرت قصة غوص قوائم فرس سراقة بن مالك في الرمال، تؤكد
حدوث هذه المعجزة التي حدثت لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن هذا
تأييد من الله - عز وجل - لنبيه، وليس من فعل العوامل الطبيعية؛ لأن هذه
الأحاديث ذكرت أن سوخ قوائم الفرس كان في أرض صلبة، وليس في أرض رخوة كما[9] يدعون، كما أن الأرض لم تتغير من تحت قوائم الجواد، فلماذا لم تسخ أثناء رجوعه، بعد أخذه الأمان
من النبي صلى الله عليه وسلم.
(*) دفاع عن السنة المطهرة، علي بن إبراهيم حشيش، دار العقيدة, مصر، ط1, 1426هـ/ 2005م.
[1]. العثان: الغبار.
[2]. يرزآني: ينقصاني مما معي شيئا.
[3].
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة، (7/ 281)، رقم (3906).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل، (9/ 4102)، رقم (7386، 7387).
[5].
شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار
مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 4104) بتصرف.
[6].
السيرة الحلبية، أبو الفرج نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي،
تحقيق: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1422هـ/
2002م، (2/ 59).
[7] . المنطقة: كل ما شد به الوسط.
[8]. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، 1390هـ/ 1970م، (2/ 180) بتصرف.
المصدر